فصل: تفسير الآيات رقم (110 - 112)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏110 - 112‏]‏

‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ‏}‏

يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم فقال‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن يوسف، عن سفيان، عن مَيْسَرة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ قال‏:‏ خَيْرَ الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام‏.‏

وهكذا قال ابن عباس، ومُجاهد، وعِكْرِمة، وعَطاء، والربيع بن أنس، وعطية العَوْفيّ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ يعني‏:‏ خَيْرَ الناس للناس‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ‏}‏ بِاللَّهِ‏}‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا شريك، عن سِماك، عن عبد الله بن عُمَيرة عن زوج ‏[‏ذُرّةَ‏]‏ بنت أبي لَهَب، ‏[‏عن درة بنت أبي لهب‏]‏ قالت‏:‏ قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فقال‏:‏ يا رسول الله، أيّ الناس خير‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏خَيْرُ النَّاسِ أقْرَؤهُمْ وأتقاهم للهِ، وآمَرُهُمْ بِالمعروفِ، وأنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ‏"‏‏.‏

ورواه أحمد في مسنده، والنسائي في سننه، والحاكم في مستدركه، من حديث سماك، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ قال‏:‏ هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة‏.‏

والصحيح أن هذه الآية عامةٌ في جميع الأمة، كل قَرْن بحسبه، وخير قرونهم الذين بُعثَ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ أي‏:‏ خيارا ‏{‏لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ‏[‏وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏]‏ الآية‏.‏

وفي مسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، وسنن ابن ماجة، ومستدرك الحاكم، من رواية حكيم بن مُعَاوية بن حَيْدَة، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أنْتُمْ خَيْرُهَا، وأنْتُمْ أكْرَمُ عَلَى اللهِ عزَّ وجَلَّ‏"‏‏.‏ وهو حديث مشهور، وقد حَسَّنه الترمذي‏.‏ ويروى من حديث معاذ بن جبل، وأبي سعيد ‏[‏الخدري‏]‏ نحوه‏.‏

وإنما حازت هذه الأمة قَصَبَ السَّبْق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أشرفُ خلق الله أكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يُعْطه نبيًّا قبله ولا رسولا من الرسل‏.‏ فالعمل ‏[‏على‏]‏ منهاجه وسبيله، يقوم القليلُ منه ما لا يقوم العملُ الكثيرُ من أعمال غيرهم مقامه، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن، حدثنا ابن زُهَير، عن عبد الله -يعني ابن محمد بن عقيل- عن محمد بن علي، وهو ابن الحنفية، أنه سمع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ‏"‏‏.‏ فقلنا‏:‏ يا رسول الله، ما هو‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأرْضِ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأمَمِ‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد من هذا الوجه، وإسناده حسن‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو العلاء الحسن بن سَوَّار، حدثنا لَيْث، عن معاوية عن بن أبي حُلَيْس يزيد بن مَيْسَرَةَ قال‏:‏ سمعت أم الدرداء، رضي الله عنها، تقول‏:‏ سمعت أبا الدرداء يقول‏:‏ سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، وما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها، يقول إنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ‏:‏ يَا عِيسَى، إنِّي بَاعِثٌ بَعْدَكَ أُمَّةً، إنْ أَصَابَهُمْ مَا يُحِبُّونَ حَمِدُوا وشَكَرُوا، وإنْ أصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا وَصَبَرُوا، وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ يَا رَبِّ، كَيْفَ هَذَا لهُمْ، وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أُعْطِيهِمْ مِن حِلْمِي وعلمي‏"‏‏.‏

وقد وردت أحاديثُ يناسب ذكرُها هاهنا‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا المسعودي، حدثنا بُكَيْر بن الأخْنَس، عن رجل، عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أُعْطِيتُ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْر، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَاسْتَزَدْتُ رَبِّي، عز وجَلَّ، فَزَادَنِي مَعَ كُل وَاحِدٍ سبعين ألفًا‏"‏‏.‏ فقال أبو بكر، رضي الله عنه‏:‏ فرأيت أن ذلك آتٍ على أهل القرى، ومصيبٌ من حافات البوادي‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا هشام بن حسان، عن القاسم بنِ مهران، عن موسى بن عبيد، عن ميمون بن مهران، عن عبد الرحمن بن أبي بكر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنَّ رَبِّي أعْطَانِي سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، بِغَيْرِ حِسَابٍ‏"‏‏.‏ فقال عمر‏:‏ يا رسول الله، فهلا استزدته‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏اسْتَزَدْتُهُ فَأَعْطَانِي مَعَ كُلِّ رَجُلٍ سَبْعِينَ أَلْفًا‏"‏‏.‏ قال عمر‏:‏ فهلا استزدته‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قَدِ اسْتَزَدْتُهُ فأعْطَانِي هكَذَا‏"‏‏.‏ وفرج عبد الله بن بكر بين يديه، وقال عبد الله‏:‏ وبسط باعيه، وحثا عبد الله، قال هشام‏:‏ وهذا من الله لا يدرى ما عدده‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو اليَمان، حدثنا إسماعيل بن عَيّاش، عن ضَمْضم بن زُرْعة قال‏:‏ قال شُرَيح بن عبيد‏:‏ مَرِضَ ثَوْبَان بحِمْص، وعليها عبد الله بن قُرْط الأزْدِي، فلم يَعُدْه، فدخل على ثوبان رجل من الكَلاعيين عائدًا، فقال له ثوبان‏:‏ ‏[‏أتكتب‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏:‏ فقال‏:‏ اكتب، فكتب للأمير عبد الله بن قرط، ‏"‏من ثوبان‏]‏ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد‏:‏ فإنه لو كان لموسى وعيسى، عليهما السلام، بحضرتك خَادم لعدته‏"‏ ثم طوى الكتاب وقال له‏:‏ أتبلغه إياه‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏ فانطلقَ الرجلُ بكتابه فدفعه إلى ابن قرط، فلما رآه قام فَزِعا، فقال الناس‏:‏ ما شأنه‏؟‏ أحدث أمر‏؟‏ فأتى ثوبان حتى دخل عليه فعاده، وجلس عنده ساعة ثم قام، فأخذ ثوبان بردائه وقال‏:‏ اجلس حتى أحدثك حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول‏:‏ ‏"‏لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا، لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ، مَعَ كُلِّ ألفٍ سَبْعُونَ ألْفًا‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد من هذا الوجه، وإسناد رجاله كلهم ثقات شاميون حِمْصِيّون فهو حديث صحيح ولله الحمد‏.‏

طريق أخرى‏:‏ قال الطبراني‏:‏ حدثنا عمرو بن إسحاق بن زبْريق الحِمْصي، حدثنا محمد بن

إسماعيل -يعني ابن عَيَّاش- حدثنا أبي، عن ضَمْضَم بن زُرْعة، عن شُرَيح بن عبيد، عن أبي أسماء الرَحَبيّ، عن ثوبان قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إنَّ رَبِّي، عَزَّ وجَلَّ، وَعَدَنِي مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا لا يُحَاسَبُونَ، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألْفًا‏"‏‏.‏ هذا لعله هو المحفوظ بزيادة أبي أسماء الرحبي، بين شريح وبين ثوبان والله أعلم‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمر، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حُصَين، عن ابن مسعود قال‏:‏ أكثرنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، ثم غَدَوْنا إليه فقال‏:‏ ‏"‏عُرِضَتْ عَلَيَّ الأنْبِيَاءُ اللَّيْلَةَ بِأُمَمِهَا، فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ الثَّلاثَةُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ النَّفَرُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، حَتَّى مَرَّ عَلَيَّ مُوسَى، عليه السلام، ومَعَهُ كَبْكَبَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَعْجَبُونِي، فَقُلْتُ‏:‏ مَنْ هَؤُلاءِ‏؟‏ فَقِيلَ لِي‏:‏ هَذَا أَخُوكَ مُوسَى، مَعَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏قُلْتُ‏:‏ فَأَيْنَ أُمَّتِي‏؟‏ فَقِيلَ‏:‏ انْظُرْ عَنْ يَمِينِكَ‏.‏ فَنَظَرْتُ فَإِذَا الظِّرَابُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ عَنْ يَسَارِكَ فَنَظَرْتُ فَإِذَا الأفُقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ فَقِيلَ لي‏:‏ قَدْ رَضِيتَ‏؟‏ فَقُلْتُ ‏"‏رَضِيتُ يَا رَبِّ، ‏[‏رَضِيتُ يَا رَبِّ‏]‏ ‏"‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏فَقِيلَ لِي‏:‏ إِنَّ مَعَ هَؤُلاءِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏"‏‏.‏ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏فِدَاكُمْ أَبِي وَأُمِّي إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ السَّبْعِينَ أَلْفًا فَافْعَلُوا فَإِنْ قَصَّرْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الظِّرَابِ فَإِنْ قَصَّرْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الأفُقِ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ ثَمَّ أُناسًا يَتَهَاوَشُونَ‏"‏‏.‏ فَقَامَ عُكاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ‏:‏ ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم‏.‏أي من السبعين، فدعا له‏.‏ فقام رجل آخر فَقَالَ‏:‏ ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم فَقَالَ‏:‏ ‏"‏قَدْ سَبَقَكَ بِهَا عُكاشَة‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ تَحَدَّثْنَا فَقُلْنَا‏:‏ لمَنْ تُرَوْنَ هؤلاء السبعين الألف‏؟‏ قوم وُلِدُوا في الإسلام لم يُشْرِكُوا بالله شيئا حتى ماتوا‏.‏ فبلغ ذلك النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال‏:‏ ‏"‏هُمْ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏"‏‏.‏

هكذا رواه أحمد بهذا السَّنَد وهذا السياق، ورواه أيضا عن عبد الصمد، عن هشام، عن قتادة، بإسناده مثله، وزاد بعد قوله‏:‏ ‏"‏رَضِيتُ يَا رَبِّ رضيت يا رب‏"‏ قال رَضِيتَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ ‏"‏نَعَمْ‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ انْظُرْ عَنْ يَسَارِكَ قال‏:‏ ‏"‏فَنَظَرْتُ فَإِذَا الأفُقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ رَضِيتَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ ‏"‏رَضِيتُ‏"‏‏.‏ وهذا إسناد صحيح من هذا الوجه، تفرد به أحمد ولم يخرجوه‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال أحمد بن مَنِيع‏:‏ حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز، حدثنا حَمّاد، عن عاصم، عن

زر، عن ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عُرِضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ بِالْمَوْسِمِ فَرَاثَتْ عَلَيَّ أُمَّتِي، ثُمَّ رَأَيْتُهُمْ فَأَعْجَبَتْنِي كَثْرَتُهُمْ وَهَيْئاتُهُمْ، قَدْ مَلَؤوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ‏"‏، فَقَالَ‏:‏ أَرَضِيتَ يَا مُحَمَّدُ‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ ‏"‏نَعَمْ‏"‏‏.‏ قَالَ‏:‏ فَإِنَّ مَعَ هَؤُلاءِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَهُمْ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏"‏‏.‏ فَقَامَ عُكاشَةُ فَقَالَ‏:‏ يَا رسول اللَّه، ادعُ اللَّه أن يجعلني منهم فقال‏:‏‏"‏أنْتَ مِنْهُمْ‏"‏ فقام رجل آخر فقال‏:‏ ‏[‏ادع الله أن يجعلني منهم فقال‏]‏ سَبَقَكَ بِهَا عُكاشَةُ‏"‏‏.‏ رواه الحافظ الضِّياء المقْدِسيّ، قال‏:‏ هذا عندي على شرط مسلم‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الطبراني‏:‏ حدثنا محمد بن محمد الجُذُوعيّ القاضي، حدثنا عُقْبة بن مكْرم‏.‏ حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ عن هشام بنِ حسان عن محمد بن سِيرين، عن عِمْران بن حُصَين قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يَدْخُل الجَنَّة مِنْ أمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَاب وَلا عَذَابٍ‏"‏‏.‏ قيل‏:‏ من هم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏هُمْ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏"‏‏.‏ رواه مسلم من طريق هشام بن حسان، وعنده ذكر عكاشة‏.‏

حديث آخر‏:‏ ثبَتَ في الصحيحين من رواية الزُّهْرِي، عن سعيد بن الْمُسَيَّب، أن أبا هريرة حدثه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ وَهُمْ سَبْعُونَ ألفًا، تُضِيء وُجُوهُهُمْ إضَاءة الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ‏"‏‏.‏ فقال أبو هريرة‏:‏ فقام عُكَاشة بن مِحْصَن الأسدي يرفع،نَمِرَةً عليه فقال‏:‏ يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ‏"‏‏.‏ ثم قام رجل من الأنصار فقال‏:‏ يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم فقال‏:‏ ‏"‏سَبَقَكَ بِهَا عكاشَةُ‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا يحيى بن عثمان، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا أبو غَسَّان، عن أبي حازم، عن سَهْلِ بن سَعْد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لَيدخُلَنَّ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا -أوْ سَبْعُمِائة ألفٍ- آخِذٌ بَعْضُهُمْ ببعض، حَتَّى يدخل أوَّلُهُمْ وآخِرُهُمُ الْجَنَّةَ، وَوجُوهُهُم عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْرِ‏"‏‏.‏

أخرجه البخاري ومسلم جميعًا، عن قُتَيْبةَ عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سَهْل به‏.‏حديث آخر‏:‏ قال مسلم بن الحجّاج في صحيحه‏:‏ حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا حُصَيْن بن عبد الرحمن قال‏:‏ كنت عند سعيد بن جُبَير فقال‏:‏ أيُّكم رأى الكوكب الذي انقضَّ البارحةَ‏؟‏ قلتُ‏:‏ أنا‏.‏ ثم قُلتُ‏:‏ أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لُدغْتُ‏:‏ قال‏:‏ فما صنعتَ‏؟‏ قلتُ‏:‏ استرقَيْتُ‏.‏ قال‏:‏ فما حملك على ذلك‏؟‏ قلتُ‏:‏ حديث حدَّثَنَاه الشعبي‏.‏ قال‏:‏ وما حدثكم الشعبي‏؟‏ قلت‏:‏ حَدَّثَنَا عن بُرَيْدَة بن الحُصَيب الأسلمي أنه قال‏:‏ لا رُقْيَةَ إلا مِنْ عَيْنٍ أو حُمّة‏.‏ فقال‏:‏ قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابنُ عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏عُرضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ، فَرَأيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ‏}‏ والنَّبِيَّ ومَعَهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ والنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أحَدٌ، إذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي‏:‏ هَذَا مُوسَى وقوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إلَى الأفقِ‏.‏ فَنَظَرتُ، فَإذا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي‏:‏ انْظُرْ إلَى الأفُقِ الآخَرِ، فَإذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي‏:‏ هَذِهِ أُمَّتُكَ ومعَهُم سَبْعُونَ ألْفًا يَدْخُلُونَ الجنة بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلا عَذَابٍ‏"‏‏.‏ ثم نهَضَ فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم‏:‏ فلعلهم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ فلعلهم الذين وُلِدُوا في الإسلام فلم يُشْرِكوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ‏؟‏‏"‏ فأخبروه، فقال‏:‏ ‏"‏هُمُ الَّذِينَ لا يَرْقُونَ وَلا يَسْتَرقُونَ وَلا يَتَطيرونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏"‏‏.‏ فقام عكاشة بن مِحصن فقال‏:‏ ادع الله أن يجعلني منهم قال‏:‏ ‏"‏أنْتَ مِنْهُمْ‏"‏‏.‏ ثم قام رجل آخر فقال‏:‏ ادع الله أن يجعلني منهم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ‏"‏‏.‏ وأخرجه البخاري عن أُسَيد بن زيد، عن هُشَيم وليس عنده، ‏"‏لا يرقون‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال أحمد‏:‏ حدثنا رَوْح بن عبادة‏.‏ حدثنا ابن جُرَيج، أخبرني أبو الزُّبَيْر، أنه سمع جابر بن عبد الله قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثًا، وفيه‏:‏ ‏"‏فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا، لا يُحَاسَبُونَ ثم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، كأَضْوَإِ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ كَذَلِكَ‏"‏‏.‏ وذكر بقيته، رواه مسلم من حديث رَوْح، غير أنه لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنن له‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن عيَّاش، عن محمد بن زياد، سمعت أبا أمامة الباهلي يقول‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏وَعَدنِي رَبِّي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألفًا، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألْفًا، لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ‏.‏ وَثَلاثُ حَثياتٍ مِنْ حَثَيات ربِّي عزَّ وجَلَّ‏"‏‏.‏

وكذا رواه الطبراني من طريق هشام بن عمار، عن إسماعيل بن عياش، به، وهذا إسناد جيد‏.‏

طريق أخرى عن أبي أمامة‏:‏ قال ابن أبي عاصم‏:‏ حدثنا دُحَيم، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا صفوان بن عَمرو، عن سليم بن عامر، عن أبي اليمان الهوزَني -واسمه عامر بن عبد الله بن لُحيّ، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجنةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ‏"‏‏.‏ قال يزيد بن الأخنس‏:‏ والله ما أولئك في أمتك يا رسول الله إلا مثل الذباب الأصهب في الذباب‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فَإنَّ اللهَ وَعَدَنِي سَبْعِينَ ألْفًا، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألفًا، وَزَادَنِي ثَلاثَ حَثَيَاتٍ‏"‏‏.‏ وهذا أيضًا إسناد حسن‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا أحمد بن خُلَيْد، حدثنا أبو تَوْبة، حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول‏:‏ حدثني عامر بن زيد البُكَالي أنه سمع عُتْبة بن عبْد السلمي، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيِرِ حِسَابٍ، ثُمَّ يَشْفَعُ كُلُّ ألْفٍ لِسَبْعِينَ ألْفًا، ثم يَحْثي رَبِّي، عز وجل، بِكفيْهِ ثَلاثَ حَثَيَات‏"‏‏.‏ فكبر عمر وقال‏:‏ إن السبعين الأوَلَ يُشفعهم الله في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم، وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر‏.‏ قال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه صفة الجنة‏:‏ لا أعلم لهذا الإسناد علة‏.‏ والله أعلم‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا هشام -يعني الدَّستَوائي- حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، حدثنا عطاء بن يَسَار أن رِفَاعة الجُهَنيّ حدّثه قال‏:‏ أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالكُدَيد -أو قال بقُدَيْد- فذكر حديثا، وفيه‏:‏ ثم قال‏:‏ وَعَدَنِي رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أنْ يُدْخِلَ الْجنةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنِّي لأرْجُو ألا يَدْخُلُوهَا حَتَّى تَبوؤُوا أْنتُمْ ومَنْ صَلَحَ مِنْ أزْوَاجِكُمْ وذرياتكم مَسَاكِنَ فِي الْجَنَّةِ‏"‏‏.‏ قال الضياء ‏[‏المقدسي‏]‏ وهذا عندي على شرط مسلم‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة، عن النَّضْر بن أنس، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الجنة مِنْ أُمَّتِي أرْبَعمِائَةِ ألْفٍ‏"‏‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ زدنا يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ والله هكذا فقال عمر‏:‏ حسبك يا أبا بكر‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ دعني، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا فقال عمر‏:‏ إن شاء الله أَدْخَل خَلْقه الجنة بكفٍّ واحد‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏صَدَقَ عُمَرُ‏"‏‏.‏هذا الحديث بهذا الإسناد انفرد به عبد الرزاق قاله الضياء‏.‏ وقد رواه الحافظ أبو نُعيم الأصبهاني‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن مَخْلَد، حدثنا إبراهيم بن الْهيْثَم البَلدِي، حدثنا سليمان بن حَرْب، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏وَعَدَنِي رَبِّي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي مِائَةَ ألْف‏"‏‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، زدنا قال‏:‏ ‏"‏وهكذا‏"‏ -وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك- قلت يا رسول الله، زدنا‏.‏ فقال عمر‏:‏ إن الله قادر أن يدخل الناس الجنة بِحَفْنَةٍ واحدة‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏صَدَقَ عُمَرُ‏"‏‏.‏ هذا حديث غريب من هذا الوجه وأبو هلال اسمه‏:‏ محمد بن سُلَيْم الراسبي، بصري‏.‏

طريق أخرى عن أنس‏:‏ قال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا عبد القاهر بن السُّرِّي السلمي، حدثنا حُمَيد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ زدنا يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لِكُلِّ رَجُلٍ سَبْعُونَ ألْفًا‏"‏ قالوا‏:‏ زدنا -وكان على كثيب -فقال‏:‏ هكذا، وحثا بيده‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، أبْعدَ الله من دخل النار بعد هذا، وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات، ما عدا عبد القاهر بن السري، وقد سئل عنه ابن معين، فقال‏:‏ صالح‏.‏

حديث آخر‏:‏ روى الطبراني من حديث قتادة، عن أبي بكر بن أنس، عن أبي بكر بن عُمَير عن أبيه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ مِنْ أُمَّتِي ثَلاثَمائة ألْفٍ الْجَنَّةَ‏"‏‏.‏ فقال عمير‏:‏ يا رسول الله، زدنا‏.‏ فقال هكذا بيده‏.‏ فقال عمير يا رسول الله، زدنا‏.‏ فقال عمر‏:‏ حَسْبك، إنّ الله إنْ شاء أدخل الناس الجنة بِحفْنَةٍ -أو بِحَثْيَةٍ- واحدة‏.‏ فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏صَدَقَ عُمَرُ‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الطبراني‏:‏ حدثنا أحمد بن خُلَيْد، حدثنا أبو تَوْبة، حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول‏:‏ حدثني عبد الله بن عامر، أن قيسا الكندي حَدّث أن أبا سعيد الأنماري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيِرِ حِسَابٍ، ويَشْفَعُ كُلُّ ألْفٍ لِسَبْعِين ألْفًا، ثم يَحْثِي رَبِّي ثَلاثَ حَثَيَاتٍ بِكَفَّيْهِ‏"‏‏.‏ كذا قال قيس، فقلت لأبي سعيد‏:‏ أنت سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ نعم، بأذني، ووعاه قلبي‏.‏ قال أبو سعيد‏:‏ فقال -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏"‏وَذَلِكَ إنْ شَاءَ اللهُ، عز وجل، يَسْتَوْعِبُ مُهَاجِرِي أمتي، ويُوَفِّي الله بقيته مِنْ أعْرَابِنَا‏"‏‏.‏

وقد روى هذا الحديث محمد بن سهل بن عسكر، عن أبي تَوْبَة الربيع بن نافع بإسناده، مثله‏.‏

وزاد‏:‏ قال أبو سعيد‏:‏ فحسب ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ أربعمائة ألف ألف وتسعين ألف ألْف‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا هاشم بن مَرْثَد الطبراني، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عَيّاش، حدثني أبي، حدثني ضَمْضَم بن زُرْعة، عن شُرَيح بن عبيد، عن أبي مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أمَا وَالَّذي نَفْسُ مُحَمَّد بِيَدِهِ لَيُبْعَثَنَّ مِنْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْجَنَّةِ مِثْلَ اللَّيْلِ الأسْوَدِ، زُمْرةٌ جَمِيعُهَا يَخْبطُونَ الأرضَ، تَقُولُ الملائِكةُ‏:‏ لِمَ جَاءَ مَعَ مُحَمَّدٍ أكْثَرُ مِمَّا جَاءَ مَعَ الأنْبِيَاءِ‏؟‏‏"‏‏.‏ وهذا إسناد حسن‏.‏

نوع آخر من الأحاديث الدالة على فضيلة هذه الأمة وشرفها بكرامتها على الله، وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا ابن جُرَيج، أخبرني أبو الزبير، عن جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إنِّي لأرْجُو أنْ يَكُونَ مَنْ يَتَّبِعُنِي مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُبْعَ الْجَنَّةِ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فكبَّرنا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏أَرْجُو أنْ يَكُونُوا ثلثَ النَّاسِ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فكبرنا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏أَرْجُو أنْ تَكُونُوا الشَّطْرَ‏"‏‏.‏ وهكذا رواه عن رَوْح، عن ابن جُرَيج، به‏.‏ وهو على شرط مسلم‏.‏

وثبت في الصحيحين من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي، عن عَمْرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أمَا تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنِّةِ‏؟‏‏"‏ فكبرنا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏أَمَا تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلَ الْجَنَّةِ‏؟‏‏"‏ فكبرنا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏إنِّي لأرْجُو أنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّة‏"‏‏.‏

طريق أخرى عن ابن مسعود‏:‏ قال الطبراني‏:‏ حدثنا أحمد بن القاسم بن مُساور، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثني الحارث بن حَصِيرة، حدثني القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كَيْفَ أَنْتُمْ وَرُبْعُ الْجَنَّةِ لَكُمْ ولِسَائر الناس ثلاثة أرْبَاعِهَا‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏كَيْفَ أَنْتُمْ وثُلُثُهَا‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ ذاك أكثر‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏كَيْفَ أَنْتَمْ والشَّطْرُ لَكُمْ‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ ذاك أكثر‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أهْلُ الْجَنّةِ عِشْرُونَ وَمَائةُ صَفٍّ، لَكُمْ مِنْهَا ثَمَانُونَ صَفًا‏"‏‏.‏ قال الطبراني‏:‏ تفرد به الحارث بن حَصيرة‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا ضرار بن مُرَّة أبو سَنان الشيباني، عن محارب بن دِثَار، عن ابن بُرَيْدة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، هَذِه الأمَّةُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَانُون صَفا‏"‏‏.‏

وكذلك رواه عن عفان، عن عبد العزيز، به‏.‏ وأخرجه الترمذي من حديث أبي سنان، به وقال‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏ ورواه ابن ماجة من حديث سفيان الثوري، عن عَلْقَمة بن مَرْثَد، عن سليمان بن بُرَيدة، عن أبيه، به‏.‏

حديث آخر‏:‏ رَوَى الطبراني من حديث سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا خالد بن يزيد البَجَلي، حدثنا سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ أُمَّتِي‏"‏‏.‏ تفرد به خالد بن يزيد البَجَلي، وقد تكلم فيه ابن عَدِيّ‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الطبراني‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا موسى بن غيلان، حدثنا هاشم بن مَخْلَد، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان، عن أبي عمرو، عن أبيه عن أبي هريرة قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ‏.‏ وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ ‏[‏الواقعة‏:‏ 38، 39‏]‏‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أَنْتُمْ رُبْعُ أهْلِ الْجَنَّةِ، أَنْتُمْ ثُلُثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَنْتُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَنْتُمْ ثُلُثَا أَهْلِ الْجَنَّةِ‏"‏‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولا الْجَنَّةَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ غَدًا لِلْيَهُوَدِ ‏[‏و‏]‏ للنصارى بَعْدَ غَدٍ‏"‏‏.‏

رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا بنحوه ورواه مسلم أيضا عن طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ‏"‏‏.‏ وذكر تمام الحديث‏.‏

حديث آخر‏:‏ روى الدارقطني في الأفراد من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الزهري،عن سعيد بن المسيَّب، عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنَّ الْجَنَّةَ حُرِّمَتْ عَلَى الأنْبِيَاءِ كُلُّهُمْ حَتَّى أَدْخُلَهَا، وَحُرِّمَتْ عَلَى الأمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أمتِي‏"‏‏.‏

ثم قال‏:‏ تفرد به ابن عقيل، عن الزهري، ولم يرو عنه سواه‏.‏ وتفرد به زُهير بن محمد، عن ابن عقيل، وتفرد به عَمْرو بن أبي سلمة، عن زهير‏.‏

وقد رواه أبو أحمد بن عَدِيّ الحافظ فقال‏:‏ حدثنا أحمد بن الحسين بن إسحاق، حدثنا أبو بكر الأعين محمد بن أبي عَتَّاب، حدثنا أبو حفص التِّنيسي -يعني عمرو بن أبي سلمة- حدثنا صدقة الدمشقي‏.‏ عن زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الزهري‏.‏

ورواه الثَّعْلَبي‏:‏ حدثنا أبو عباس المَخْلَدي، أخبرنا أبو نُعْم عبد الملك بن محمد، أخبرنا أحمد بن عيسى التنيسي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا صدقة بن عبد الله، عن زهير بن محمد، عن ابن عقيل، به‏.‏

فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ‏}‏ فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح لهم، كما قال قتادة‏:‏ بَلَغَنَا أن عمر بن الخطاب ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ في حجة حجّها رأى من الناس سُرْعة فقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ثم قال‏:‏ من سَرَّه أن يكون من تلك الأمة فَلْيؤدّ شَرْط الله فيها‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ‏[‏لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏]‏ ‏[‏المائدة‏:‏79‏]‏‏}‏ ولهذا لما مَدح ‏[‏الله‏]‏ تعالى هذه الأمة على هذه الصفات شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ‏}‏ أي‏:‏ بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ قليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان‏.‏

ثم قال تعالى مخبرًا عباده المؤمنين ومُبشِّرًا لهم أن النصر والظَّفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين، فقال‏:‏ ‏{‏لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ‏}‏ وهكذا وقع، فإنهم يوم خَيْبَر أذلّهم الله وأرْغَم آنافهم وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قَيْنُقَاع وبني النَّضِير وبني قُرَيْظَة كلهم أذلهم الله، وكذلك النصارى بالشام كَسَرهم الصحابة في غير ما موطن، وسَلَبوهم مُلْك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا تزال عِصَابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم ‏[‏عليه السلام‏]‏ وهم كذلك، ويحكم، عليه السلام بشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فيَكْسر الصَّلِيب، ويقتل الخنزير، ويَضَع الجزْية، ولا يقبل إلا الإسلام‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ ألزمهم الله الذلة والصَّغَار أينما كانوا فلا يأمنون ‏{‏إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ بذمة من الله، وهو عَقْد الذمة لهم وضَرْب الجزية عليهم، وإلزامهم أحكام الملة ‏{‏وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ أمان منهم ولهم، كما في المُهَادَن والمعاهَد والأسير إذا أمَّنَه واحد من المسلمين ولو امرأة، وكذَا عَبْد، على أحد قولي العلماء‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ بعهد من الله وعهد من الناس، ‏[‏و‏]‏ هكذا قال مُجاهد، وعِكْرِمة، وعَطَاء، والضَّحَّاك، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، والرَّبِيع بن أنس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ أُلزموا فالتزَمُوا بغضب من الله، وهم يستحقونه ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ‏}‏ أي‏:‏ أُلزِموها قَدرًا وشَرْعًا‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ‏}‏ حَقٍّ‏}‏ أي‏:‏ وإنما حملهم على ذلك الكبْر والبَغْي وَالْحسَد، فأعْقَبَهم ذلك الذِّلة والصَّغَار والمسكنة أبدا، متصلا بذلة الآخرة، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ إنما حَمَلهم على الكفر بآيات الله وقَتْل رُسُل الله وقُيِّضوا لذلك أنّهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر الله، عز وجل، والغشيان لمعاصي الله، والاعتداء في شرع الله، فَعِياذًا بالله من ذلك، والله المستعان‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا يونس بن حَبِيب حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا شعبة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي مَعْمَر الأزدي، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال‏:‏ كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبيّ، ثم يقوم سُوق بَقْلهم في آخر النهار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113 - 117‏]‏

‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏

قال ابن أبي نَجِيح‏:‏ زَعَم الحسن بن يَزيد العِجْليّ، عن ابن مسعود في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏ قال لا يستوي أهل الكتاب وأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهكذا قال السُّدِّي، ويؤيد هذا القول الحديثُ الذي رواه الإمامُ أحمدُ بن حنبل في مسنده‏.‏

حدثنا أبو النَّضْر وحسن بن موسى قالا حدثنا شَيْبان، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود قال‏:‏ أخر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة‏:‏ فقال‏:‏ ‏"‏أَمَا إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الأدْيَانِ أَحَدٌ يَذْكُرُ اللهَ هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرَكُمْ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وأُنزلَت هذه الآيات‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏[‏أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏]‏ إلى قوله ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

والمشهور عن كثير من المفسرين -كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره، ورواه العَوْفِيّ عن ابن عباس- أن هذه الآيات نزلت فيمن آمَنَ من أحبار أهل الكتاب، كعبد الله بن سَلام وأسَد بن عُبَيْد وثعلبة بن سَعْية وأسَيد بن سعْية وغيرهم، أي‏:‏ لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب ‏[‏وهؤلاء الذين أسلموا، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً‏}‏ أي‏:‏ ليسوا كلُّهم على حَدّ سواء، بل منهم المؤمن ومنهم المُجْرم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏]‏ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏ أي‏:‏ قائمة بأمر الله، مطيعة لشَرْعه مُتَّبِعة نبيَّ الله، ‏[‏فهي‏]‏ ‏{‏قَائِمَةٌ‏}‏ يعني مستقيمة ‏{‏يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏ أي‏:‏ يقومون الليل، ويكثرون التهجد، ويتلون القرآن في صلواتهم ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ وهؤلاء هم المذكورون في آخر السورة‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ ‏[‏لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏]‏ ‏[‏الآية199‏]‏ وهكذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ‏}‏ أي‏:‏ لا يضيع عند الله بل يجزيكم به أوفر الجزاء‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملا‏.‏

ثم قال تعالى مخبرًا عن الكفرة المشركين بأنه ‏{‏لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا‏}‏ أي لا يُرَدّ عنهم بأس الله ولا عذابه إذا أراده بهم ‏{‏وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏

ثم ضرب مثلا لما ينفقه الكفار في هذه الدار، قاله مجاهد والحسن، والسُّدِّي، فقال تعالى‏:‏

‏{‏مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ‏}‏ أي‏:‏ بَرْد شديد، قاله ابن عباس، وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَير وقتادة والحسن، والضّحّاك، والرَّبِيع بن أنس، وغيرهم‏.‏ وقال عطاء‏:‏ بَرْد وجَلِيد‏.‏ وعن ابن عباس أيضًا ومجاهد ‏{‏فِيهَا صِرٌّ‏}‏ أي‏:‏ نار‏.‏ وهو يرجع إلى الأول، فإن البرد الشديد -سيّما الجليد -يحرق الزروع والثمار، كما يحرق الشيء بالنار ‏{‏أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ‏}‏ أي‏:‏ أحرقته، يعني بذلك السَّفْعة إذا نزلت على حَرْث قد آن جدَادُه أو حَصَاده فدمَّرَتْه وأعدَمَتْ ما فيه من ثمر أو زرع، فذهبت به وأفسدته، فعَدمَه صاحبه أحوج ما كان إليه‏.‏ فكذلك الكفار يمحق الله ثوابَ أعمالهم في هذه الدنيا وثمرتها كما أذهب ثمرةَ هذا الحرث بذنوب صاحبه‏.‏ وكذلك هؤلاء بَنَوْهَا على غير أصْل وعلى غير أساس ‏{‏وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118 - 120‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏

يقول تبارك وتعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي‏:‏ يُطْلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خَبَالا أي‏:‏ يَسْعَوْنَ في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعونه من المكر والخديعة، ويودون ما يُعْنتُ المؤمنين ويخرجهم ويَشُقّ عليهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل‏:‏ هم خاصّة أهله الذين يطلعون على داخل أمره‏.‏

وقد روى البخاري، والنسائي، وغيرهما، من حديث جماعة، منهم‏:‏ يونس، ويحيى بن سعيد، وموسى بن عقبة، وابن أبي عتيق -عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِي وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَة إلا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ‏:‏ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخيرِ وتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَم اللهُ ‏"‏‏.‏

وقد رواه الأوزاعي ومعاوية بن سلام، عن الزهري، عن أبي سلمة ‏[‏عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه فيحتمل أنه عند الزهري عن أبي سلمة‏]‏ عنهما‏.‏ وأخرجه النسائي عن الزهري

أيضا وعلقه البخاري في صحيحه فقال‏:‏ وقال عبيد الله بن أبي جعفر، عن صَفْوان بن سليم، عن أبي سلمة، عن أبي أيوب الأنصاري، فذكره‏.‏ فيحتمل أنه عند أبي سلمة عن ثلاثة من الصحابة والله أعلم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو أيوب محمد بن الوَزَّان، حدثنا عيسى بن يونس، عن أبي حَيّان التيمي عن أبي الزِّنْباع، عن ابن أبي الدِّهْقانة قال‏:‏ قيل لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه‏:‏ إن هاهنا غُلاما من أهل الحِيرة، حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتبا‏؟‏ فقال‏:‏ قد اتخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين‏.‏

ففي هذا الأثر مع هذه الآية دلالة على أن أهل الذَّمَّة لا يجوز استعمالهم في الكتابة، التي فيها استطالة على المسلمين واطِّلاع على دَوَاخل أمُورهم التي يُخْشَى أن يُفْشوها إلى الأعداء من أهل الحرب؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ‏}‏‏.‏

وقد قال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا إسحاق بن إسرائيل، حدثنا هُشَيم، حدثنا العَوَّام، عن الأزهر بن راشد قال‏:‏ كانوا يأتون أنَسًا، فإذا حَدَّثهم بحديث لا يدرون ما هو، أتَوا الحسن -يعني البصري- فيفسره لهم‏.‏ قال‏:‏ فحدَّث ذات يوم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ، ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا فلم يدروا ما هو، فأتوا الحسن فقالوا له‏:‏ إن أنسا حَدّثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الشِّركِ ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا فقال الحسن‏:‏ أما قوله‏:‏ ‏"‏ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏"‏لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الشِّركِ‏"‏ يقول‏:‏ لا تستشيروا المشركين في أموركم‏.‏ ثم قال الحسن‏:‏ تصديق ذلك في كتاب الله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ‏}‏‏.‏

هكذا رواه الحافظ أبو يعلى، رحمه الله، وقد رواه النسائي عن مجاهد بن موسى، عن هشيم‏.‏ ورواه الإمام أحمد، عن هُشَيم بإسناده مثله، من غير ذكر تفسير الحسن البصري‏.‏

وهذا التفسير فيه نظر، ومعناه ظاهر‏:‏ ‏"‏لا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيّا أي‏:‏ بخط عربي، لئلا يشابه نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان نَقْشُه محمد رسول الله؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه نهى أن يَنْقُشَ أحد على نقشه‏.‏ وأما الاستضاءة بنار المشركين، فمعناه‏:‏ لا تقاربوهم في المنازل بحيث تكونون معهم في بلادهم، بل تَبَاعَدُوا منهم وهَاجروا من بلادهم؛ ولهذا روى أبو داود ‏[‏رحمه الله‏]‏ لا تَتَرَاءَى نَاراهُمَا‏"‏ وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ أَوْ سَكَنَ مَعَهُ، فَهُوَ مِثْلُهُ‏"‏؛ فحَمْلُ الحديث على ما قاله الحسن، رحمه الله، والاستشهاد عليه بالآية فيه نظر، والله أعلم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ‏}‏ أي‏:‏ قد لاح على صَفَحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ‏}‏ أي‏:‏ أنتم -أيها المؤمنون- تحبون المنافقين مما يظهرون لكم من الإيمان، فتحبونهم على ذلك وهم لا يحبونكم، لا باطنا ولا ظاهرا ‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ‏}‏ أي‏:‏ ليس عندكم في شيء منه شك ولا رَيْب، وهم عندهم الشك والرِّيَب والحِيرة‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ‏}‏ أي‏:‏ بكتابكم وكتابهم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء لهم، منهم لكم‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ‏}‏ والأنامل‏:‏ أطراف الأصابع، قاله قتادة‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

أوَدُّ كما ما بَلّ حَلْقِيَ ريقَتى *** وَمَا حَمَلَتْ كَفَّايَ أنْمُلي العَشْرا

وقال ابن مسعود، والسُّدِّي، والرَّبِيع بن أنس‏:‏ ‏{‏الأنَامِلَ‏}‏ الأصابع‏.‏

وهذا شأن المنافقين يُظْهِرون للمؤمنين الإيمانَ والمودّة، وهم في الباطن بخلاف ذلك من كل وجه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ‏}‏ وذلك أشد الغيظ والحنق، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ أي‏:‏ مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أن الله مُتمّ نعمته على عباده المؤمنين ومُكَملٌ دينه، ومُعْلٍ كلمتَه ومظهر دينَه، فموتوا أنتم بغيظكم ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ أي‏:‏ هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم، وتُكنُّه سَرَائرُكُم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تؤمّلون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها، فلا خروج لكم منها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا‏}‏ وهذه الحال دالة على شدة

العداوة منهم للمؤمنين وهو أنه إذا أصاب المؤمنين خصب، ونصر وتأييد، وكثروا وعزّ أنصارهم، ساء ذلك المنافقين، وإن أصاب المسلمين سَنَة -أي‏:‏ جَدْب- أو أُديل عليهم الأعداء، لما لله في ذلك من الحكمة، كما جرى يوم أُحُد، فَرح المنافقون بذلك، قال الله تعالى مخاطبا عباده المؤمنين‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ‏[‏إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏]‏ يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكَيْدِ الفُجّار، باستعمال الصبر والتقوى، والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم، فلا حول ولا قوة لهم إلا به، وهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن‏.‏ ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته، ومن توكل عليه كفاه‏.‏

ثم شَرَعَ تعالى في ذكر قصة أحد، وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين، والتمييز بين المؤمنين والمنافقين، وبيان صَبْر الصابرين، فقال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121 - 123‏]‏

‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏

المرادُ بهذه الوقعة يوم أُحُد عند الجمهور، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، وغير واحد‏.‏ وعن الحسن البصري‏:‏ المراد بذلك يوم الأحزاب‏.‏ رواه ابن جرير، وهو غريب لا يُعَوَّل عليه‏.‏

وكانت وقعةُ أحد يومَ السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة‏.‏ قال ‏[‏قتادة‏]‏ لإحدى عشرة ليلة خَلَتْ من شَوَّال‏.‏ وقال عِكْرِمة‏:‏ يوم السبت للنصف من شوال، فالله أعلم‏.‏

وكان سببها أن المشركين حين قُتل من قتل من أشرافهم يوْمَ بَدْر، وسَلمَت العيرُ بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سُفْيان، فلما رجع قفَلُهُم إلى مكة قال أبناء من قُتل، ورؤساء من بقي لأبي سفيان‏:‏ ارصد هذه الأموال لقتال محمد، فأنفقوها في ذلك، وجمعوا الجموع والأحابيش وأقبلوا في قريب من ثلاثة آلاف، حتى نزلوا قريبًا من أحد تِلْقاء المدينة، فصلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الجمعة، فلما فَرَغَ منها صَلى على رجل من بني النجار، يقال له‏:‏ مالك بن عَمْرو، واستشار الناس‏:‏ أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة‏؟‏ فأشار عبد الله بن أُبيّ بالمقام بالمدينة، فإن أقاموا أقاموا بشِرِّ مَحْبس وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين‏.‏ وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدرا بالخروج إليهم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمَتَه وخرج عليهم، وقد نَدم بعضهم وقالوا‏:‏ لعلنا استكرَهْنَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، إن شئت أن نمكث‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لأمَتَه أنْ يَرْجِعَ حَتى يَحْكُمَ اللهُ لَه‏"‏‏.‏

فسار، عليه السلام في ألف من أصحابه، فلما كان بالشَّوط رجع عبد الله بن أبيّ في ثُلُث الجيش مُغْضَبا؛ لكونه لم يرجع إلى قوله، وقال هو وأصحابه‏:‏ لو نعلم اليوم قتالا لاتبعناكم، ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم‏.‏

واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا حتى نزل الشِّعْب من أُحُد في عَدْوَةِ الوادي‏.‏ وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال‏:‏ ‏"‏لا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حتى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ‏"‏‏.‏

وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه، وأمَّر على الرماة عبد الله بن جُبَيْر أخا بني عَمْرو بن عوف، والرماة يومئذ خمسون رجلا فقال لهم‏:‏ ‏"‏انْضَحُوا الخَيْلَ عَنَّا، وَلا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكُمْ‏.‏ والْزَمُوا مَكَانَكُمْ إنْ كَانَتِ النَّوْبَةُ لَنَا أوْعَلَيْنَا، وإنْ رَأيْتُمُونَا تَخَطَّفُنا الطَّيْرُ فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ‏"‏‏.‏

وظاهر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، وأعطى اللواء مُصْعَب بن عُمَير أخا بني عبد الدار‏.‏ وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الغِلْمان يومئذ وأرجأ آخرين، حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين‏.‏ وتعبَّأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فَرَس قد جَنَبوها فجعلوا على مَيْمَنة الخيل خالد بن الوليد‏:‏ وعلى الميسرة عِكْرِمة بن أبي جَهْل، ودفعوا إلى بني عبد الدار اللواء‏.‏ ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في مواضعه عند هذه الآيات، إن شاء الله تعالى‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏ أي‏:‏ بَيّن لهم منازلهم ونجعلهم مَيْمَنة ومَيْسَرة وحيث أمرتهم ‏{‏وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ سميع لما تقولون، عليم بضمائركم‏.‏

وقد أورد ابن جرير هاهنا سؤالا حاصله‏:‏ كيف يقولونَ‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة، وقد قال الله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏‏؟‏ ثم كان جوابه عنه‏:‏ أن غدوه ليبوئهم مقاعد، إنما كان يوم السبت أول النهار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ‏[‏وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏]‏ قال البخاري‏:‏ حدثنا عليّ بنُ عبد الله، حدثنا سفيان قال‏:‏ قال عَمْرو‏:‏ سمعت جابر بن عبد الله يقول‏:‏ فينا نزلت‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ‏[‏وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏]‏ قال‏:‏ نحن الطائفتان بنو حارثَة وبنو سَلَمة، وما نحِب -وقال سفيان مرة‏:‏ وما يسرنِي- أنَّها لم تَنزلْ، لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا‏}‏‏.‏ وكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به‏.‏ وكذا قال غيرُ واحد من السَّلَف‏:‏ إنهم بنو حارثة وبنو سلمةَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يوم بدر، وكان في جمعة وافق السابع عشر من رمضان، من سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغَ فيه الشرك وخرَّب محِله، ‏[‏هذا‏]‏ مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فيهم فرسان وسبعُون بعِيرا، والباقون مُشاة، ليس معهم من العَدَد جميع ما يحتاجون إليه، وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبَيض، والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد، فأعز الله رسوله، وأظهر وحيه وتنزيله، وبَيَّضَ وَجْه النبي وقبيله، وأخْزى الشيطان وجيله ولهذا قال تعالى -مُمْتَنا على عباده المؤمنين وحِزبه المتقين‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ قليل عددكم ليعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العَدَد والعُدَد؛ ولهذا قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا‏[‏وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ‏.‏ ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ‏.‏ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ‏]‏ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25 -27‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جَعْفَر، حدثنا شُعْبَة، عن سِمَاك قال‏:‏ سمعت عِياضا الأشعري قال‏:‏ شهدتُ الْيَرْمُوك وعلينا خمسة أمراء‏:‏ أبو عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، وابن حَسَنَة، وخالد بن الوليد، وعياض -وليس عياض هذا الذي حدث سماكا- قال‏:‏ وقال عمر، رضي الله عنه‏:‏ إذا كان قتال فعليكم أبو عبيدة‏.‏ قال‏:‏ فكتبنا إليه إنه قد جاش إلينا الموت، واستمددناه، فكتب إلينا‏:‏ إنه قد جاءني كتابكم تَسْتَمِدُّونَنِي وإني أدلكم على من هو أعز نصرًا، وأحصن جندًا‏:‏ الله عز وجل، فاستنصروه، فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد نُصر يومَ بدر في أقل من عدتكم، فإذا جاءكم كتابي فقاتلوهم ولا تراجعوني‏.‏ قال فقاتلناهم فهزمناهم أربعة فراسخ، قال‏:‏ وأصبنا أموالا فتشاورنا، فأشار علينا عياض أنْ نُعْطِيَ عن كل ذي رأس عشرة‏.‏ قال‏:‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ من يراهنني‏؟‏ فقال شاب‏:‏ أنا، إن لم تَغْضَبْ‏.‏ قال‏:‏ فسبقه، فرأيت عَقِيصَتَيْ أبي عُبَيدة تَنْقزان وهو خَلْفه على فرس عُرْي‏.‏ وهذا إسناد صحيح وقد أخرجه ابن حِبّان في صحيحه من حديث بُنْدَار، عن غُنْدَر، بنحوه، واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه‏.‏

وبَدْر مَحَلَّة بين مكة والمدينة، تُعرف ببئرها، منسوبة إلى رجل حفرها يقال له‏:‏ ‏"‏بدر بن النارين‏"‏‏.‏ قال الشعبي‏:‏ بدر بئر لرجل يسمى بدرًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ تقومون بطاعته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124 - 129‏]‏

‏{‏إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏

اختلف المفسرون في هذا الوعد‏:‏ هل كان يوم بَدْر أو يوم أُحُد‏؟‏ على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ‏}‏ ورُوي هذا عن الحسن البصري، وعامر الشعبي، والرَّبِيع بن أنس، وغيرهم‏.‏ واختاره ابن جرير‏.‏

قال عباد بن منصور، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ‏}‏ قال‏:‏ هذا يوم بَدْر‏.‏ رواه ابن أبي حاتم، ثم قال‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وُهَيْب عن داود، عن عامر -يعني الشعبي- أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كُرْز بن جابر يُمدّ المشركين، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنزلِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مُسَوِّمِين‏}‏ قال‏:‏ فبلغت كُرْزًا الهزيمة، فلم يمد المشركين ولم يمد الله المسلمين بالخمسة‏.‏

وقال الرَّبِيع بن أنس‏:‏ أمد الله المسلمين بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما الجمع بين هذه الآية -على هذا القول- وبين قوله تعالى في قصة بدر‏:‏ ‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ‏[‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏]‏ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏9، 10‏]‏ فالجواب‏:‏ أن التنصيص على الألف هاهنا لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها، لقوله‏:‏ ‏{‏مُردِفِينَ‏}‏ بمعنى يَرْدَفُهم غيرُهم ويَتْبَعهم ألوف أخر مثلهم‏.‏ وهذا السياق شبيه بهذا السياق في سورة آل عمران‏.‏ فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، والله أعلم، قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة‏:‏ أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف‏.‏

القول الثاني‏:‏ أن هذا الوعد متَعَلق بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏ وذلك يوم أحُد‏.‏ وهو قول مجاهد، وعِكْرِمة، والضَّحَّاك، والزهري، وموسى بن عُقبة وغيرهم‏.‏ لكن قالوا‏:‏ لم يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف؛ لأن المسلمين فرّوا يومئذ -زاد عكرمة‏:‏ ولا بالثلاثة الآلاف؛ لقوله‏:‏ ‏{‏بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا‏}‏ فلم يصبروا، بل فروا، فلم يمدوا بملك واحد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا‏}‏ يعني‏:‏ تصبروا على مُصَابرة عَدُوّكم وتتقوني وتطيعوا أمري‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏ قال الحسن، وقتادة، والربيع، والسُّدِّي‏:‏ أي من وجههم هذا‏.‏ وقال مجاهد، وعكرمة، وأبو صالح‏:‏ أي من غضبهم هذا‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ من غضبهم ووجههم‏.‏ وقال العَوْفيّ عن ابن عباس‏:‏ من سفرهم هذا‏.‏ ويقال‏:‏ من غضبهم هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏ أي‏:‏ معلمين بالسِّيما‏.‏

وقال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن حارثة بن مُضَرِّب، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال‏:‏ كان سِيَما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكان سيماهم أيضا في نواصي خَيْلِهم‏.‏

رواه ابن أبي حاتم، ثم قال‏:‏ حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا هَدْبة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة في هذه الآية‏:‏ ‏{‏مُسَوِّمِينَ‏}‏ قال‏:‏ بِالْعِهْن الأحمر‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏مُسَوِّمِينَ‏}‏ أي‏:‏ مُحَذَّقة أعرافها، مُعَلَّمة نواصيها بالصوف الأبيض في أذناب الخيل‏.‏

وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس، قال‏:‏ أتت الملائكة محمدا صلى الله عليه وسلم مُسَوِّمين بالصوف، فسَوَم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف‏.‏

وقال عكرمة وقتادة ‏{‏مُسَوِّمِينَ‏}‏ أي‏:‏ بسيما القتال، وقال مكحول‏:‏ ‏{‏مُسَوِّمِينَ‏}‏ بالعمائم‏.‏

وروى ابن مَرْدُويَه، من حديث عبد القدوس بن حَبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏مُسَوِّمِينَ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏مُعَلَّمينَ‏.‏ وكان سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود، ويوم حنين عمائم حُمْر‏"‏‏.‏

ورَوَى من حديث حُصَين بن مُخارق، عن سعيد، عن الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس قال‏:‏ لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حَدّثني مَنْ لا أتهم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس قال‏:‏ كان سيما الملائكة يوم بدر عَمَائِمَ بيض قد أرْسَلُوها في ظهورهم، ويوم حُنَيْنٍ عمائمَ حُمْرا‏.‏ ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عَدَدًا ومَدَدًا لا يَضْربون‏.‏

ثم رواه عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقْسَم عن ابن عباس، فذكر نحوه‏.‏وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا الأحْمَسِي حدثنا وَكِيع، حدثنا هشام بن عُرْوة، عن يحيى بن عباد‏:‏ أن الزبير ‏[‏بن العوام‏]‏ رضي الله عنه، كان عليه يوم بدر عمامة صفراء مُعْتَجرًا بها، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صُفْر‏.‏

رواه ابن مَرْدُويَه من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، فذكره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالها إلا بشارةً لكم وتطييبا لقلوبكم وتطمينا، وإلا فإنما النصر من عند الله، الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم، كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ‏.‏ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ‏.‏ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ‏.‏‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏4-6‏]‏‏.‏ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏ أي‏:‏ هو ذو العزة التي لا تُرام، والحكمة في قَدره والإحكام‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ أي‏:‏ أمركم بالجهاد والجلاد، لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير، ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهدين‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفًا‏}‏ أي‏:‏ ليهلك أمة ‏{‏مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يخزيهم ويردهم بغيظهم لَمّا لم ينالوا منكم ما أرادوا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا‏}‏ أي‏:‏ يرجعوا ‏{‏خَائِبِينَ‏}‏ أي‏:‏ لم يحصلوا على ما أمَّلُوا‏.‏

ثم اعترض بجملة دَلَّت على أنّ الحُكْم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له، فقال‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ‏}‏ أي‏:‏ بل الأمر كلّه إلي، كما قال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏40‏]‏ وقال ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏272‏]‏‏.‏ وقال ‏{‏إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏56‏]‏‏.‏

قال محمد بن إسحاق في قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ‏}‏ أي‏:‏ ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم‏.‏

ثم ذكر تعالى بقية الأقسام فقال‏:‏ ‏{‏أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ مما هم فيه من الكفر ويهديهم بعد الضلالة ‏{‏أَوْ يُعَذِّبَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ يستحقون ذلك‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا حِبّان بن مُوسى، أخبرنا عبد الله، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، حدثني سالم، عن أبيه‏:‏ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وفُلانًا‏"‏ بعد ما يقول‏:‏ ‏"‏سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ربنا ولك الحمد‏"‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ‏[‏أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏]‏‏.‏

وهكذا رواه النسائي، من حديث عبد الله بن المبارك وعبد الرزاق، كلاهما، عن مَعْمَر، به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو النَّضْر، حدثنا أبو عقيل -قال أحمد‏:‏ وهو عبد الله بن عقيل، صالح الحديث ثقة- قال‏:‏ حدثنا عُمَر بن حمزة، عن سالم، عن أبيه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏اللهم العن فلانا، اللهم العن الحارث بن هِشامِ، اللهم العن سُهَيلَ بنَ عَمْرو، اللهم العن صَفْوانَ بْنَ أُمَيَّةَ‏"‏‏.‏ فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ فَتِيبَ عليهم كلّهم‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية الغَلابي، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا محمد بن عجْلان، عن نافع، عن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو على أربعة قال‏:‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ‏[‏أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏]‏ قال‏:‏ وهداهم الله للإسلام‏.‏

وقال محمد بن عَجْلان، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على رجال من المشركين يُسَمِّيهم بأسمائهم، حتى أنزل الله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ‏}‏ الآية‏.‏

وقال البخاري أيضًا‏:‏ حَدّثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سَعْد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيَّب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يَدْعو على أحد -أو يدعو لأحد- قنَتَ بعد الركوع، وربما قال -إذا قال‏:‏ ‏"‏سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد-‏:‏ ‏"‏اللَّهُمَّ انْجِ الْوَلِيد بن الوليدِ، وسَلَمَة بْنَ هشَامٍ، وعَيَّاشَ بْنَ أبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَر، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسَنِيِّ يُوسُفَ‏"‏‏.‏ يجهر بذلك، وكان يقول -في بعض صلاته في صلاة الفجر-‏:‏ ‏"‏اللهم العن فلانا وفلانا‏"‏ لأحياء من أحياء العرب، حتى أنزل الله ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ‏}‏ الآية‏.‏

وقال البخاري‏:‏ قال حُمَيْد وثابت، عن أنس بن مالك‏:‏ شُجّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحُد، فقال‏:‏ ‏"‏كَيْفَ يُفْلِحُ قُوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ‏؟‏‏"‏‏.‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ‏}‏ وقد أسند هذا الحديث الذي عَلَّقه البخاري رحمه الله‏.‏

وقال البخاري‏:‏ في غزوة أُحُد‏:‏ حدثنا يحيى بن عَبْد الله السلمي، حدثنا عبد الله -أخبرنا مَعْمَر،

عن الزهري، حَدّثَني سالم بن عبد الله، عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -إذا رفع رأسه من الركوع، في الركعة الأخيرة من الفجر-‏:‏ ‏"‏اللهم العن فلانا وفلانا وَفُلانًا‏"‏ بعد ما يقول‏:‏ ‏"‏سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ربنا ولك الحمد‏"‏‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏]‏‏.‏

وعن حنظلة بن أبي سفيان قال‏:‏ سمعت سالم بن عبد الله قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوانَ بن أمَيّة، وسُهَيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فنزلت‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ‏[‏أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ‏]‏ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏

هكذا ذكر هذه الزيادة البخاري معلقة مرسلة مسندة متصلة في مسند أحمد متصلة آنفا‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هُشَيم، حدثنا حُمَيد، عن أنس، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كُسرَتْ رَبَاعيتُهُ يومَ أُحدُ، وشُجَّ في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال‏:‏ ‏"‏كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ، وهو يدعوهم إلى ربهم، عز وجل‏"‏‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ انفرد به مسلم، فرواه ‏[‏عن‏]‏ القعنبي، عن حَمّاد، عن ثابت، عن أنس، فذكره‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا الحسين بن واقد، عن مطر، عن قتادة قال‏:‏ أصيب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكُسرت رَبَاعيته، وفرق حاجبه، فوقع وعليه درعان والدم يسيل، فمر به سالم مولى أبي حذيفة، فأجلسه ومسح عن وجهه، فأفاق وهو يقول‏:‏ ‏"‏كَيْفَ بِقَوْمٍ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ، وهو يدعوهم إلى اللهِ‏؟‏‏"‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ‏[‏أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏]‏‏.‏ وكذا رواه عبدُ الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة، بنحوه، ولم يقل‏:‏ فأفاق‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ الجميع ملك له، وأهلهما عبيد بين يديه ‏{‏يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ هو المتصرف فلا مُعَقّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، والله غفور رحيم‏.‏